حكاية السينما



حكاية السينما
لكل حضارة رمز ولكل حضارة كتابة، كتب الفراعنة على البردي ونقش الآشوريين الصخر، أما إنسان القرن العشرين فكتب بالضوء فأصبحت هذه الكتابة رمزا لحضارته.
ذاك الضوء الذي يخترق الظلام الحالك و يحوله إلى مهرجان إثر سقوطه على قطعة من القماش ابيض اللون معلقة بعدا عن مصدر الضوء.                    

حين يسقط هذا الضوء على ذاك القماش الأبيض يجعل منه الحياة بكل وقائعها بأسلوب كله إبهار وإثارة تفنن فيها هذا الإنسان جاعل من جماهير السينما تقف مبهورة في ذهول لا مثيلة له مدركة حقيقة هذا الإنسان.
وتاريخ هذا الفن هو رصد لعقل هذا الإنسان الفنان الذي حاك الواقع وحول هذا الاختراع الضوئي إلى أداة للغوص في عمق النفس البشرية.
فالسينما هي محاكاة للواقع بأسلوب فني و برؤى مختلفة، جذب إليه جميع الفنون الأخرى فاصبح يستطيع أن يعبر عن حالات الروح وعن وقائع عاطفية معتمدا في ذلك على عدة أدوات أساسية تتمثل في الضوء والديكور و الأشخاص، من خلال كتابات سينمائية وأحاسيس بصرية ينتج عنها سمفونيات نسمعها بأعيننا ونشاهدها بقلوبنا و عقولنا معا.    

تبدأ عملية إخراج الفيلم منذ اللحظة التي يبدأ فيها المخرج في كتابة السيناريو، حيث يضع فيه الأسس و المنطلقات الفكرية و الفنية لموضوع الفيلم و بنيته المتكاملة شكلا ومضمونا، و قد أثبت التجارب العملية عبر تاريخ الفن السابع أن كتابة أي الفيلم مرت بهذه المراحل:
الموضوع: و هو فكرة الفيلم الذي يكون ملخصا على شكل synopsis السيناريو: أو توسيع و تطوير لهذه الفكرة فتصير موضوعا مقسما إلى وحدات درامية.
التواصل: و هو معالجة الوحدات المشكلة للسيناريو بشيء من التفصيل.
التقطيع: و هو المرحلة الانتقالية بين الشكل المكتوب و الشكل السينماتوغرافي و يحتوي بالطبع على الحوار و المؤثرات الصوتية.
إلا أن تقنية السيناريو تلعب دور أساسيا وهام في تحديد نجاح الفيلم أو فشلة. إن السيناريو هو تحويل المشاهد الأدبية إلى مشاهد تقنية و كأنما يخيل إليك أنك تشاهد فيلما بكل وقائعه المتسلسلة و تحركات أبطاله على الشاشة.
و لا يمكننا كتابة سيناريو من العدم إذ يجب أن يكون لدينا موضوع ، فهو يشبه الحليب فإذا كان ذو جودة عالية غني بالمواد الدسمة كانت الزبدية و الجبن المستخرج منه جيد ،لذلك يجب أن يراعي الموضوع في حالة أعداد عقلية البلد الذي سينتج و يصور فيه ، و عقلية البلدان التي سيعرض فيها ، و على سبيل المثال عدة أفلام أمريكية نالت نجاحا باهرا إثر عرضها في أمريكا ، بينما في أوروبا و الشرق العربي لقيت الفشل الذريع ، و السبب يعود إلى عدم تناسب أو ملائمة موضوعاتها و تسلسل حوادثها مع عقلية و تقاليد تلك البلادن. لذا يجب أن تضع نصب عينيك هذه الناحية عند كتابتك لأي سيناريو ، كما يجب أن تراعي الأفكار التي يمكن تحقيقها إذ يستحيل تحقيق بعض الأفكار إلا بوسائل ضخمة و ميزانية كبيرة جدا .
هناك اختلاف كبير بين موضوع الفيلم و مواضيع الكتب و الصحف، ذلك الأدباء يعتمدون على الأسلوب اللفظي و أدبي الشيق من أجل تصوير مشاهد و أحداث خيالية في منتهى الروعة، إلا أنها تبقى حبرا على ورق بأسلوب أفقي، بينما موضوع الفيلم يعتمد على الأفكار الواقعية التي يسهل تحقيقها تصويريا، كما أن هناك لقطات لا يمكن لأبرع كاتب أو مؤلف أن يأتي بمثلها روعة و صدقا مهما بلغ به الخيال لأنها صورت بأسلوب فني عمودي.                    

يمكنك أن تعثر على موضوع في غاية الأهمية من خلال تصفحك لجريدة ما فيطالعك في أخر الصفحة خبر لا يتعدى عشرة أسطر، فتقرأ من أجل إنقاذه من الموت – تمت زراعة مخ شاب لرجل يتجاوز الخمسين سنة وذلك بعد حادث مرور – هذا الخبر الصغير الذي شد انتباهك و آثار تفكيرك لدى قراءتك له يصلح موضوعه لفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني يمكن أن يكون من أنجح الأفلام. فموضوع زرع المخ شئ محير و جديد قد لا يحدث أبدا، إلا أن هذا الموضوع يمكن معالجته بمضمونين، إما أن تخلعه كوميديا أو مزيجا من الكوميديا و الميلودراما كوميديا بما يتضمنه من مفارقات و ملابسات في كيفية تصرف الكهل بمخ شاب، و ميلودراما من خلال الحالات و العوامل النفسية التي تحيط بإنسان ينتقل من الشيخوخة إلى الشباب في شكل شيخ.
فهذه فكرة واحدة من عشرات المواضيع تستطيع إيجادها في خبر صغير قرأته أو حادث سمعته أو مشهد رأيته، وعلى سبيل الذكر وليس للحصر فكمال الشيخ الذي احدث يغيرا هام في السينما المصرية في عصرها الذهبي حيث كان يسطر على قاعات العرض الأفلام الرومانسية التي لا تخلو من الأغاني ورقصات لأنها كانت من موصفات النجاح.

Comments

Popular posts from this blog

مراحل تحليل الرائز TAT المنشور 02

المحتوى الكامن والمحتوى الظاهر للوحات الرورشاخ

اختبار تفهم الموضوع TAT المنشور 01

خرافة السحر

الاشاعة و سيكولوجية الجماهير

البنية النفسية حسب بارجوري

اختبار الرورشاخ 01

La Regression /النكوص