رسالة من الماضي

رسالة من الماضي



حطت الطائرة على ارض مطار نيس الدولي على الساعة 10 صباحا ، كانت الامطار تعزف سنفونية القدر على ضواحي مدينة نيس الحزينة كعادتها في فصل الخريف فهي تصاب باكتئاب عابر بعد ذهاب اخر السواح منها مع نهاية شهر سبتمبر من كل عام.

نزلت من على الطائرة قاصدا بهو المطار المزدحم بالمسافرين و دون ان تبذل اي جهد تلمح انتشار افراد الشرطة في كل حدب و صوب و هم مدججين بالأسلحة و البستهم الواقية من الرصاص، تُذكرُك بهجومات شارلي ابدو و باتاكلو . وقفت غير بعيد عن كشك شرطة الحدود يتقدمني اربعة اشخاص. كانت عيناي تتفحص الاشخاص بعفوية مرة تحطان على شقراء ارهقتها الرحلة و مرة اخرى على عجوز ارهقتها الحياة و في الاخير على شاب يبدو عليه الفرح و الغبطة.

صباح الخير سيدي كانت هذه تحية شرطي شرطة الحدود. صباح النور سيدي.. تفضل ..قدمت له جواز السفر .... فتحه و نظر في التأشيرة ثم صوب نظراته نحوي كانه يقارن بين الصورة و الحقيقة قائلا .

- تبدو اصغر بكثير من صورة الجواز سيدي اليس كذلك ؟ ! و رسم على شفتيه ابتسامة المزاح... قلت له انها التسريحة يا سيدي و تعديل حلاقة اللحية و الشوارب.... فقط

طلب مني ان اضع السبابة اليسرى على الماسح الضوئي للبصمات ثم قال رحلة سعيدة سيدي بعد ان ختم على الجواز لكن فضوله دفعه لطرح سؤال اخير، باحث في ماذا سيدي؟

اجبته بعفوية في علم الاجتماع الجنائي سيدي ! امسكت جواز سفري ووضعته في الجيب الداخلي للمعطف امسكت حقيبتي اليدوية و اتجهت نحو  الباب الزجاجي الذي يُوصل الى قاعة الانتظار و منه الى الخارج....

كان الباركينغ الخارجي ملتحف بضباب كثيف يمنع الرؤية  يعيق التميز بين الاشباح البشرية  المغادرة التي تظهر من حين لأخر عند عواميد الانارة ، وقفت تحت عمود الانارة حتى اعطي فرصة لموظف جامعة نيس من التعرف علي .  بعد مضي 5 دقائق من الانتظار سمعت اسمي من خلال مكبر الصوت: السيد محمد رياض مطلوب الرصيف 5D ، فاتجهت عيناي تبحث على الارصفة و من بينها الرصيف D5 بالصدفة لم يكن بعيد عني فبعض الخطوات السريعة اوصلتني اليه في غضون 4 دقائق .

-  صباح الخير سيدي هل انت مسيو رياض ؟ من جامعة الجزائر02

- صباح النور نعم انا هو ! يسعدني لقاؤك ! ردت علي بابتسامة عريضة  ، انا الانسة سوزان كوزيك  مكلفة بالعلاقات العامة بالجامعة يسعدنا حضورك . لقد حجزنا لك غرفة مدة اقامتك في اوبيرج "زهرة النرجس" تبعد عن الجامعة بربع ساعة.

كانت سوزان كوزيك  امرأه في حدود 32 سنة ، وجه جميل مستدير كأنه قمر اثناء اكتماله  ، شعر اشقر كأن الشمس ارتسمت في خُصُلاته  ، خدان مكتنزان ينافسان شقائق النعمان في الجمال ، طويلة القامة زادها كعب حذائها العالي بعض السنتيمترات لتعطي للعيون العنان كي تحاكي عيون الغزال.  وزادها الطايور القصير الذي ترتديه لمسة مشاهير السينما و هي تعتلي سلالم مدينة كان في مهرجانها السنوي.

تبددت أحلام اليقظة، عند سماعي:  لقد وصلنا سيدي إلى موقف سيارتي تفضل اصعد السيارة ! اعتليت السيارة جنب السائقة ، كانت تُجيد السياقة مثل ما تُجيد الحديث ....

نوجهنا نحو  نيس القديمة  سالكين " بروموناد دي زو نجلي"  تذكرت احداث مساء يوم 14 جويلية 2016 ، حيث قام مجنون بدهس حشد من السواح  بواسطة شاحنة  على منتزه الإنجليز.  ورغم فظاعة الحادث تظل نيس مدينة  البذخ والرفاهية ، القمار والانتحار ، انها مدينة الحب الإبليسي حيث ترى في كل زقاق حانة و بجوارها بائعات الهوى انها مدينة الشهوة  الإنسانية !! اوقفت زخم الأفكار في مخيلتي قائلة :

- سوف تجد برنامج الغد على الطاولة في غرفتك بجوار وثائق الملتقى و الفترة المسائية انت حر ابتداء من الثالثة..

- جيد  سأكون في الموعد سيدتي سوزان كوزيك !

 ردت باستحياء يعلوه احمرار الخجل  خاليها سوزان فقط   !!!!  .

-  شكرا على الاستقبال ... و قلت لنفسي ماذا تقصد انت حر غدا في المساء هل هو  اسلوب انشائي ام اسلوب طلبي لقد  بدأت بعض الافكار تتخمر في راسي !! انها النزوة الصاعدة من اللاشعور دون رقيب !!! توقفت السيارة عند مدخل الاوبيرج.

- وقالت انتهت الرحلة سيد رياض موعدنا غدا اذن  وعلت شفتيها ابتسامة اظنها  مهنية هذه المرة !! فتحت باب الغرفة المحجوزة في الطابق الاول على اليمين رغم ضيقها الا انها مرتبة بأناقة  ، لم يكن يشغل بالي الا اخذ  دوش ساخن  و ارتشاف فنجان قهوة  يزودني   بالجرعة المعتادة من الكافيين التي اصبح دماغي يتوسل الي ان ارسلها له ...

لست ادري كم الساعة الآن  فتحت عيناي و اذا بالظلمة تكتنفي من كل جانب ، صمت رهيب يخيم على الغرفة الضيقة  ، الهاتف بجانب المصباح  ، تتسلل الاصابع تبحث على الهاتف ،ضغطت على زر التشغيل فانبعث منه ضوء  شق الظلام من جهة و ازعج بصري من جهة اخرى ، انها السادسة و النصف، وقت استيقاظي المعتاد.

نصف ساعة كانت كافية لضخ تستوسرون الى كل عضلات جسدي و يتمكن المفعول السحري لدوبامين من تحفزي ، لان  الجري قرابة 20 كلومتر ذهابا و ايابا على كورنيش الكوت ازور في فصل الخريف، حيث  خلعت الشمس نفسها من السماء لعدة أسابيع  يتطلب جهد الأبطال..

لما عدت الى الاوبيرج كان الخدمة الذاتية لفتور الصباح قد نصبت ، حياني يوهان موظف الاستقبال قائلا صباح الخير يا دوك ! فأجبته صباح النور يوهان كيف اصبحت ؟ دون ان انتظر اجابته لانني سوف اسمعا و انا اصعد السلالم قاصدا الغرفة .

سقوط الماء الساخن على راسي و انا مغمض العينين فصلني عن الواقع و افقدني معالم المكان ، اصابعي تحرث فروة راسي ابغي بهذه الحركة بعض الاسترخاء و لو لفترة وجيزة. انهيت حمامي قسرا وانتصبت امام المرآة امسح بُخارها ، و احلق ما تبقى من لحيتي و اصفف شاربي و انتف منه  تلك الشعرة البيضاء التي اقحمت نفسها عمدا.  رششت مزيل العرق و ارتديت ملابسي بسرعة ثم دلفت الى مطعم  السالف سرفيس كان الجو مملوء بالحركة ، اخترت منضدة متطرفة بجوار النافذة المطلة على الحديقة و تتصدر المطعم حيث يظل كل فرد تحت رؤيتك.

اثناء تناولي لفنجان القهوة كنت امارس هوايتي المعتادة وهي محاولة تحليل سلوك الناس عشوائيا

الرجل الذي يجلس في الطاولة  المقابلة ، هو بصدد التودد لزوجته علَها تسامحه على ذنب اقترفه البارحة أظن انه خسر مبلغا مهما في القمار ، فهو من  حين لأخر يضع يده على الطاولة و يقسم لها بالله  بانه لن يعيدها، و عدم اكتراثها من كلامه و ازاحتها لوجهها في الجهة المعاكسة كأنها تقول له  انت كاذب. اما الكهل الجالس وحده اما النافذة المفتوحة بغية استنشاق كمية كبيرة من الهواء فهو  يشعر بالوحدة من جراء فقدان شريكته فهو  من حين لأخر يدور خاتم الزواج  في اصبعه و هذه الحركة لا يفعلها الا الوحيد.

الساعة و احدة  و النص ، المكان ساحة الجامعة  الطقس غائم بعد القاء المداخلة في المؤتمر اتجاهنا الى المطعم  لتناول الغذاء في المؤدبة التي نظمتها الجامعة ، اثناء ارتشاف للقهوة و تناول اطراف الحديث مع الاساتذة شد انتباهي قدوم امرة في  عقدها  الثاني  و هي تتجه نحوي  و كأن وجهها مألوف لدي  قالت هل انت الدكتور رياض  ؟ ظننت للوهل الاولى انها طالبة جاءت لتعلق على المداخلة ،  قلت لها نعم انستي ...

أدخلت يدها في جيبها و اخرجت  ظرف  قديم و اعطته لي و قالت هذا من مارتين أرسلته لك منذ 29 سنة  ... تسمرت في مكاني و انا اسمع اسم مارتين  لقد انزلق بي الزمن إلى 1990  ظننت أن الزمن توقف .

وضعت الرسالة في الجيب الداخلي للمعطف ، قلت لها كيف هي .. أهي بخير ردت عليا بحزن كباقي نساء العام في هذه المواقف... و غادرت المكان و لكن قبل أن تخرج من القاعة التفتت اتجاهي و ابتسمت و كأنها تقول لنا موعد اخر...

  

Comments

  1. لللم أفق من قراءة الرسالة الا بعد بللت دموعي لحيتي ، كانت ال سالة مثل الحادث القادم الذي يفتت كيان الإنسان لقد ارجعتني

    ReplyDelete

Post a Comment

تسعدني تعليكاتكم و ليتكم تطرحوا اسئلتكم و ماذا تردون ان انشر

Popular posts from this blog

بطاقة قراءة كتاب " تاريخ علم النفس و مدارسه "

اختبار الرورشاخ 01

السينما و الأمراض العقلية فيلم المعتوه

مراحل تحليل الرائز TAT المنشور 02

البنية النفسية حسب بارجوري

نظرية التعلم البنائية المعرفية لجان بياجيه

اختبار تفهم الموضوع TAT المنشور 01

عادل إمام و بلاجيا الأفلام الأجنبية

السيكودراما ؟

تفسير الجريمة عند (أنريكو فيري)